الخوف من الله
بسم الله الرحمن الرحيم
نقف سويًا في هذه الحلقة مع مقتضى آخر مما يجب أن يعتقده المسلم وهو أن يعيش في هذه الحياة بين أمرين عظيمين هما: خوفه من الله، ورجاؤه لرحمته، فهما للمؤمن كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى جناحا قلب العبد المؤمن يطير بهما إلى الله تعالى، ومتى افتقد الطائر جناحيه أو أحدهما فهو عرضة لكل صائد وكاسر.
وأحد هذين الأمرين هو الخوف الذي دلَّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".رواه الترمذي (2450) وحسنه ابن باز (مجموع فتاوى ابن باز2/279)
والمقصود بهذا الخوف من الله سبحانه وتعالى، وخشيته، وهذا الخوف الذي يستلزم معرفة العبد لربه عبادته وحده دون سواه، وطاعته، ومحبته، ونقف معه الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى: فالخوف من الله تعالى صفة من صفات المتقين، وهو دليل على اليقين بالله تعالى وموعوده، وقد وصف الله به ملائكته المقربين بقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }(النحل،50)
وكلما زاد العبد معرفة بربه، وبنفسه كان لخالقه أخشى وأخوف، وكما جاء في الحديث الصحيح: "أنا أعرفكم بالله وأشدكم خشية له" أصل الحديث متفق عليه رواه البخاري (5063)ومسلم (1401)
وهذا الخوف من الله تعالى وخشيته يورث للعبد الكف عن المعاصي، والحذر من الوقوع في محارم الله، والتزام طاعته، والإقبال عليه، وقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منهم: "رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله" فحال خوفه ربه بينه وبين إغراء هذه الفتن وإغراء الشيطان. قال بعض العارفين: من خاف أدلج، وقال آخر: ليس الخائف من بكى، إنما الخائف من ترك ما يقدر عليه من أثر الخوف.
متفق عليه رواه البخاري (6806)ومسلم (1031)
الوقفة الثانية: الخوف من الله يحدث على وجوه:
أحدها: ما يحدث من معرفة العبد بذل نفسه وهوانها وقصورها وعجزها عن الامتناع عن الله تعالى إن أراده بسوء قال تعالى: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } (نوح،14 )
والثاني: ما يحدث من المحبة وهو أن يكون العبد في عامة الأوقات وجلاً من أن يكله إلى نفسه، ويمنعه مواد التوفيق، ويقطع دونه الأسباب، فلا يزال مشفقًا من حرمان محبته، خائفًا من السقوط عنده.
والثالث: ما يحدث من الوعيد، قال تعالى: { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ }(البقرة،41) وقال:
{ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }(البقرة40) وقال ( ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ }(إبراهيم،14). فخوف المسلم من ربه نابع من خشيته لربه وتعظيمه وإجلاله له، ومن خوف سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، فالخوف المحمود المطلوب هو الذي يعلق صاحبه بالله عزَّ وجلَّ، ويقوده إلى فعل الطاعات، وطلب الرحمة والمغفرة، مقترنًا بحسن الظن بالله سبحانه.
وليس الخوف المقصود ذلك الخوف الذي يقعد صاحبه عن العمل، أو يدعوه إلى ما حرم الله تعالى، أو اقتراف المنكرات، أو خوف الصوفية الجهلة ممن يعبد الله تعالى بجهل وهوى وخزعبلات وخرافات، أو ذلك الخوف الجبلي من الأوهام ونحوها، أو ذلك الخوف على رزقه ورزق أولاده، ويحدث عند صاحبه قلقًا واضطرابًا دون تعلق بالله سبحانه أو اتكال عليه كل هذا الخوف وأمثاله خوف مذموم، حري بالمسلم أن يتجنبه.
الوقفة الثالثة:
إن الخوف من الله سبحانه والخشية من عقابه القائمة على الشعور بقدرة الله تعالى ومهيمنته، وما توعد به الكفرة والمجرمين من عقاب أليم لا ينبغي أن يفضى إلى اليأس من رحمة الله تعالى، والاستبعاد لمغفرته، وتجاوزه ،لأن هذا شأن مسيء الظن بالله من الكافرين كما قال تعالى: ( وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } (يوسف،87.)
أخي القارئ لا شك أن من خشي الله تعالى وخافه على نحو ما ذكر، فقد عبدالله حق عبادته، وأمن يوم الفزع الأكبر، وارتاح يوم يقلق الناس، فمن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.
وإن الخوف من الله تعالى من سمات المتقين، وصفات المؤمنين، بل من شروط الإيمان، ومكملات العقيدة، قال تعالى: { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } (آل عمران،175) وقال عن العلماء العاملين الربانيين( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } (فاطر،28) ولذا من كان بالله أعرف كان منه أخوف.
وهكذا كان حال الصحابة رضي الله عنهم وسلف الأمة الصالح، جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يومًا فقال: "والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات يجأرون إلى الله تعالى" رواه البخاري (4621)ومسلم (2359) قال الراوي: فغطى الصحابة رضي الله عنهم رؤوسهم ولهم خنين، لقد أثرت فيهم موعظة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فأجهشوا بالبكاء خوفًا من مستقبل لا يدرون كيف يكون. ويُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا سلك فجًا سلك الشيطان فجًّا آخر، استمعوا إلى قوله رضي الله عنه: (يا ليتني كنت كبش أهلي سمنوني ما بدالهم حتى إذا كنت كأسمن ما يكون زارهم بعض من يحبون فذبحوني لهم، فجعلوا بعضي شواءً وبعضي قديدًا ثم أكلوني، ولم أكن بشرًا).
وهذا أحد الصحابة رضي الله عنه قد انهارت قواه وخرَّ مغشيًا عليه، لما سمع الآية المنذرة في سورة الطور: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ }(الطور،7) والآخر يغمى عليه عندما سمع قول الله تعالى : {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (الجاثية،29) فيقسم هذا الصحابي عند ما أفاق ويقول: وعزتك لا عصيتك جهدي أبدًا فأعني بتوفيقك على طاعتك لقد تضاءلت هذه الصور في واقع كثير من المسلمين فضعف الخوف من الله، وقلّ الإشفاق من المصير، وهول المطلع، وهان على كثير منهم تسرب النفاق إلى القلوب، وأمنوا من مكر الله، فالذين تراهم يتقلبون بنعم الله تعالى ولا يشكرونها، أو لا يقرأون بقراءة كتاب الله تعالى واستماعه فضلًا عن التأثر به، أو يتثاقلون في فعل الطاعات، ولا يبالون في اقتراف المنكرات، كل هذا وذاك من ضعف الخوف من الله تعالى وما ضعف هذا الخوف إلا وينتج نتائج وخيمة وعواقب غير حميدة.