من يعمل سوء يجز به
من يعمل سوء يجز به
كم كانت مخطئة في تقديرها لنفسها وعرفت ما يشعره الناس نحوها فرأت حقيقة نفسها وأنها إنسانة أنانية متكبرة غير محبوبة من الناس.. فخرجت من هذه المحنة محطمة.
هذه القصة عرضها التلفزيون – قبل مدة – في حلقات لتسلية الناس بها لكنها تعرض في حياتنا – كل يوم – بطريقة غير مسلية!
قد لا أكون مبالغا لو قلت أن الناس – معظمهم إن لم يكن كلهم – يظنون أنهم رائعون محترمون محقون لا يظلمون ولا يعتدون فلماذا يقابلون بالإيذاء والظلم؟!
يظنون أنهم مخلصون أوفياء فيقابلون بالغدر والخيانة والجحود!!
هل سمعتم عن "آل كابوني" عدو الشعب الأول، وزعيم أعتي عصابة إجرامية ظهرت في شيكاغو! إن "كابوني" هذا كما يحدثنا "ديل كارنيجي" في كتابه (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس) لم يلم نفسه أبدا على جرائمه، بل نظر إلى نفسه كمصلح اجتماعي لم يقدره الناس، ولم يحسنوا فهمه فقال معبرا عن ذلك: لقد قضيت زهرة حياتي أتحف الناس، بما يسري عنهم ويزجي أوقات فراغهم، فكان جزائي على هذا سعي رجال الشرطة إلى سفك دمي!
فكيف نتوقع من الناس المحترمين أن يروا عيوبهم؟!
كلنا نتألم لما فعله الناس بنا! ولا نفكر أبدا ماذا فعلنا نحن بهم!
يرى أحدنا القشة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه هو، إن هذا
-والله- تصرف غير عادل، ننظر لأنفسنا بعيون منحازة ومحابية، نعتقد أننا لا نخطئ أبدا فنلوم الآخرين –دائما- بدل أن نلوم أنفسنا، وإن صدف واعترف واحد بخطئه فإنه يبرره بسبعين عذرا ولا يلتمس لأخيه عذرا واحدا وقع في نفسه الخطأ.
وإليكم بعض الأمثلة:
دأبت "منى" على استعارة الأشرطة والكتب والأغراض المتنوعة من صديقاتها، ولطالما ضاعت الأشرطة المستعارة بين أشرطتها أو أعادت الكتب بعد تأخيرها شهورا أو أتلفت بعض ما تستعيره من أغراض، ولكنها
غضبت أشد الغضب عندما احتاجت مصفف شعرها الكهربائي ذات يوم وتذكرت أن "سعاد" التي استعارته منها
منذ أسبوع لم تعده بعد، ولم تتردد في مقاطعة "ابتسام" شهرين بسبب إضاعتها جزءا من كتاب (الترغيب والترهيب) الذي أعارته مرة لها
"حسين" لا يتردد في كل مرة يصل فيها إلى الإشارة الضوئية على تقاطع-في اختراق المسار الأيمن- المخصص لمن يريد الالتفاف إلى اليمين حيث يقف بسيارته أمام الإشارة الحمراء غير مبال بأبواق السيارات المعترضة وراءه ممن يحق له الالتفاف يمينا، وعندما يتحرك أخيرا بعدما تتحول الإشارة إلى اللون الأخضر لا يكلف نفسه عناء التفكير في الغيظ والمعاناة الذين سبيهما لطابور السيارات المحجوز وراء سيارته ولكنه عندما أراد مرة الالتفاف يمينا وكان في عجلة من أمره ووجد نفسه محجوزا وراء سيارة أغلقت المسار الأيمن –كما كان هو يفعل- ملأ الفضاء بزعيق البوق والسباب والشتائم من كل نوع ولم يجد للسائق المخالف أي عذر فيما فعل.
لم تظن "آلاء" يوما أنها تؤذي أحدا أو أنها سبب في معاناة أحد، وكانت تظن أنها صريحة ومستقيمة عندما تبدي آراءها بجلاء وصراحة في صديقاتها: ثوبك غير أنيق.. موضوعك في مادة التعبير ركيك.. أسلوبك في التحدث إلى المعلمة غير موفق توقفي عن إلقاء النكات السخيفة، إنها لا تضحك أبدا.. الخ.
ولكنها صدمت عندما صارحتها " شذى" بأن أداءها في الحفل المدرسي كان ضعيفا هزيلا دون المستوى المطلوب بكثير، واعتبرت أن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن صديقة حقيقية فقررت قطع علاقتها بها.
" أكرم" رجل مدخن، كان يدخن في البيت والمكتب والسيارة والمصعد ولا يبالي بما يسببه الدخان لغير المدخنين من أذى وإزعاج، ولا يقدر الضرر الذي يلحقه بزوجته وأطفاله الصغار الذين يشاركونه تنشقه الدخان راغمين بل هو لم يلتفت إلى داء الربو الذي يعاني منه أحد أبنائه ويتفاقم سوءاً مع تدخينه أمامه. ولكنه عندما انصرف أخيرا عن التدخين لظروف صحية قاهرة هددت حياته صار يعتبر كل من يدخن أمامه في مكان عام معتديا مؤذيا قليل ذوق ويفتقر إلى اللباقة وهو لم يتوان عن الدخول في مشادات ومشاجرات مع عدد من المدخنين!
كانت "وداد " تزور قريباتها وصديقاتها فيعتدي ولدها الصغير ذو السنوات الثلاث على أولادهن وبناتهن ويؤذيهم وربما ضربهم ودفعهم فأوقعهم أرضا وهي ساكنة تراقب فلا تعترض وربما استحسنت واستلطفت قوة ولدها وجرأته. ولكنها عندما رزقت بابنة جديدة وصار الأولاد الآخرون يتعرضون لهذه الصغيرة بالضرب أو الأذى كانت تهب كالنمر المتوحشة للدفاع عنها وتركض صارخة مستنكرة عدوان الأولاد وسلبية الأمهات في منع أبنائهم من الاعتداء على الصغيرة المسكينة!
أما " عصام " و" سهام " ففي شجار مستمر وخصام دائم، هي تشكو تقصيره في واجباته نحو أطفاله وبيته وتغيبه الطويل عن المنزل وعدم تفهمه لمشاعرها وعدم تقديره واحترامه لدورها، وهو يتعمد الهرب من المنزل شاكيا الفوضى المسيطرة عليه وإهمال زوجته لأناقتها وكثرة طلباتها التي لا تناسب مع وضعه المادي وانشغالها عنه وعن همومه ومشكلاته بالأطفال والواجبات اليومية التي لا تنتهي أبدا!
الأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى، إنها تحتاج إلى مجلدات… ولكن خلاصتها واحدة: (نحن نفترض أننا نجسد الكمال، في حين أن الآخرين هم المزعجون!)
وقد ورد هذا المعنى في سورة الحجرات _ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ _ الحجر(11). والسبب في ذلك أن عقولنا موجهة إلى الداخل متمركزة عل الذات وهذا –معذرة-
نوع خفي من الأنانية وحب الذات اللذين نهى الإسلام عنهما والدليل أننا غارقون كليا بهمومنا وأعمالنا.
والعلاج أن نخرج من دائرة أنفسنا لينظر كل منا إلى نفسه من وجهة نظر من حوله، لو استطعنا فعلا أن
نخرج من أنفسنا ونرى شخصياتنا من منظار مراقب محايد لأصابنا الرعب!
قال الإمام الغزالي صاحب (إحياء علوم الدين): "إن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم" ثم اقترح أربع طرق يعرف بها الإنسان عيوب نفسه:
1- أن يسأل شيخه عن عيوبه، وأنا أقترح أن يسأل أستاذه أو والديه فإنهما أعلم الناس بعيوبه، وأحرصهم على مصلحته.
2- أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا فينصبه رقيبا على نفسه لينبهه على عيوبه.
3- أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه، فإن عين السخط تبدى المساوئ.
4- أن يخالط الناس ثم يتفقد نفسه ويطهرها من كل ما يذمه من غيره، وناهيك بهذا تأدبا.
إن إنجاز الخطوة الأولى ( معرفة عيوب النفس) يسهل الخطوة الثانية (إصلاح العيوب) وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.
أيها الإخوة والأخوات: إننا نتعامل مع الله قبل أن نتعامل مع الناس، وقد قال تعالى في سورة النساء_ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ _ سورة النساء أي أن كل ما نعمله مرتد إلينا لا محالة، في حياتنا الدنيا ثم في الآخرة، فلماذا لا نوفر على أنفسنا العناء والابتلاء إذا كنا لا نريد توفيرها على الناس؟ أقصد إن كنا لا نهتم بمشاعر الناس ومشاكلهم ولا نحرص على محبتهم ولا يعنون لنا شيئا ألا تهمنا أنفسا؟ ألا نتمنى أن نعيش في سعادة.
فقد سأل أبو بكر رضي الله عنه عن هذه الآية؟ فقال يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الآية؟ فكل سوء عملناه جزينا به! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تغضب؟ ألست تصيبك الآواء؟ قال: بلى، قال: فهو مما تجزون به.
وقد قيل: " كما تدين تدان " وإليكم هذه القصة الرمزية المعبرة: كان لرجل ثلاثة أصدقاء، فلما نزلت به نازلة لجأ إلى أقرب الثلاثة إلى نفسه يناشده العون، فتنكر له وتخلى عنه، وذهب إلى الثاني فقدم له قليلا من العون، ثم تركه ثم ذهب إلى الثالث فهب لنجدته وقال له: أنا معك حيثما تكون.
الأول هو المال، والثاني هم الأهل والثالث هو العمل الذي يلازم صاحبه إلى أي مكان!! إن العمل الصالح هو الذي ينفع المؤمن في الآخرة فينجيه من عذاب الله ويدخله الجنة، وهو الذي يؤنس المؤمن في قبره ولكن الذي رأيناه دائما في الحياة والذي تؤكده النصوص أن العمل الصالح ينفع صاحبه في الدنيا أيضا _ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ_ (34) سورة فصلت.
وقال الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
وقد وجدت أن سلوك الناس معنا مرآة لسلوكنا نحن معهم، وبالتالي علينا أن نحدد بكل دقة تفاصيل سلوكنا، وأن نقوم أخلاقنا وتصرفاتنا مع من حولنا، حتى نقابل بنفس الصورة، والمرآة لا تغش أبدا ولا تزيف الحقائق وإنما تظهرها كما هي تماما صحيح أنها تعكس اليسار واليمين ولكنها تفعل ذلك دائما وباستقامة! لكننا نحن الذين نخطئ أحيانا فنصنع المعروف مع غير أهله: " وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا " فنكون كمن وقف أمام مرآة محدبة أو مقعرة، فتشوهت صورنه ولكن لا يغير أبدا من حقيقة سلوكنا ولا ينقص من ثوابنا.
ولنتذكر أخيرا أننا نتعامل مع بشر لهم عواطفهم وشعورهم وهم أصحاب نفوس لها عزة وشخصيات لها
كرامة واحترام، فلنقدر ذلك ولنعلم أن الحياة قاسية علينا وعليهم فلنتعاون عليها. ونحن نعيش في الدنيا
والدنيا لا تدوم على حال ولا ندري فقد تدور علينا الدوائر يوما، ونحتاج لمن هو دوننا أو لمن أسأنا له
يوما، فلنتق الله ولنتسامح مع من حولنا.
ولا تنسوا أن الله يتجاوز عن المتجاوزين وييسر للميسرين ويتسامح مع المتسامحين.
منقول