وجوه الإكرام والتعظيم في القرآن الكريم
الوقفة الأولى: مع مطلع سورة الإسراء:
قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء:1).
وهذه الآيات فيها ذكر الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس ومن البيت الحرام للمسجد الأقصى، وقد ثبتت بالأحاديث الصحيحة المتكاثرة هذه الحادثة وما بعدها، وهي حادثة المعراج إلى السماوات العلى، وتأتي الإشارة إلى ذكر ذلك في سورة النجم، وسنشير إلى أحاديثها ورواياتها عند استعراضنا لهذه الوجوه من تعظيم وإكرام المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من خلال هذه الحادثة العظيمة.
{سبحان} مصدر سماعي غير قياسي للتسبيح، سبح يسبح تسبيحاً هذا مصدر قياسي و{سبحان} مصدر سماعي.
والمعنى هو: التنزيه، سبح: أي نزه وعظم، فإذا كان ذلك مرتبطا بحرف الجر (عن) كان ذلك تنزيها، ومنه: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: من الآية91) أي: ننزه الله عن وصف أولئك الواصفين.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الطور: من الآية43) تنزيه لله عز وجل عما يقول أولئك المشركون.
وأما إذا تجردت عن حرف الجر كما هو هنا فمعناها التعظيم.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه} (الإسراء: من الآية1).
ليس هنا في الآية سبحان الله عن شيء معين فالمقصود هنا التعظيم، وهو إطلاق التعظيم على ما يليق بجلاله تعجبا من قدرته المطلقة، وعظمة خلقه وعظمة ما يجري به قضاؤه وقدره – سبحانه وتعالى-.
{الذي أسرى} والسرى: هو المشي بالليل، ومع ذلك جاء في الآية ليلاً بالتنكير مع التنوين، وذلك ليس فيه تكرار وليس للتأكيد، وإنما لبيان أن الإسراء لم يستغرق الليل كله إنما استغرق جزءاً منه، وهذا أبلغ في إظهار المعجزة التي كانت لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
وقال: {بعبده} ولم يقل برسوله أو بنبيه لبيان مكانة العبودية ورفعتها، وأنها تسمو بصاحبها إلى المقام الأرفع، وتكون ذات أثر في مكانته وقدره عند الله -سبحانه وتعالى-.
وكذلك فيها إثبات بشرية النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يمنع ذلك من المغالاة المفرطة، فتنزع عنه صفة البشرية، ويكسى أو يلحق به بعض الصفات الإلهية فبين أنه -وإن بلغ هذا المقام الأرفع- لا يزال عبداً رسولاً بشراً ، هكذا اقتضت حكمة الله -عزو جل- أن تبقى بشريته وأن يرقى بعبوديته.
ثم بين موطن الإسراء ابتداءً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولم يقل قصي أو أقصى منه للإشارة كما قال أهل التفسير: أنه سيكون بين المسجدين مسجد يكون هو أقصى من الأول، ثم يكون الثاني هو الأقصى، وفي هذا إشارة إلى مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن قد أقيم ولا أنشئ، ولم يكن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد هاجر بعدُ؛ لأن هذه السورة كانت في الفترة المكية.
و{الذي باركنا حوله} فيها دلالة على بركة البيت المقدس، وأنه مبارك من باب أولى وأن بركة ما حوله إنما سببها هي بركته التي أرادها الله.
ثم قال: {لنريه من آياتنا} وهذا إجمال للآيات المعجزة التي رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الرحلة المباركة {إنه هو السميع البصير}.
أما وجوه التعظيم والإكرام فكثيرة في هذه الآية، وما يتصل بها من دلالات الإسراء والمعراج، وسنقف وقفات موجزة، وإلا فإن المقام في هذا أكبر وأعظم من أن تتسع له الكلمات والأوقات المحدودة.
الوجه الأول: وجه التعظيم والإكرام بالإفراد والتخصيص.
فإنه لم يثبت لنبي من الأنبياء ولا لرسول من الرسل شيء مماثل لحادثة الإسراء والمعراج، ولا قريب منها بوجه من الوجوه، وهذا الإفراد والتخصيص لا شك أنه وجه ظاهر في تعظيم وإكرام النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الوجه الثاني: الدلالة على التقديم والإمامة للأنبياء.
فيما وقع مما ثبت من أنه صلى بهم إماماً في بيت المقدس، وهذا تفضيل وتقديم وتأتي له وجوه أخرى أيضاً من الدلالات، وهذا من التعظيم والإكرام بلا شك.
الوجه الثالث: الدلالة على الوراثة للديانات وختم النبوة.
فإنه لما عُرج به إلى السماء كان يمكن أن يعرج به من مكة المكرمة، ومن البيت الحرام مباشرة، لكن جاء الإسراء إلى بيت المقدس، وهو موطن كثير من الأنبياء، ومر به موسى وعيسى وإبراهيم الخليل -عليهم الصلاة والسلام-.
وكذلك للإشارة إلى أن ميراث النبوة الذي انتهى إلى عيسى -عليه السلام-، وما أنزل عليه من الإنجيل، ومن قبله موسى وما أنزل عليه من التوراة، وبنو إسرائيل المنتسبون إلى هؤلاء الأنبياء جاءت رحلة الإسراء والمعراج لتقدم دليلا على أنه هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وإشارة إلى أنه هو الأحق بهؤلاء الرسل والأنبياء، وأن كتابه كما جاء في القرآن الكريم هو المهيمن على هذه الكتب، وأن دينه هو الكامل الخاتم الذي جاء بخلاصة أو بخير ما في هذه الكتب والرسالات والنبوات قبله -عليه الصلاة والسلام-.
يتبع